سورة الأنبياء - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


قوله تعالى: {ونوحاً} المعنى: واذكر نوحاً، وكذلك ما يأتيك من ذِكْر الأنبياء {إِذ نادى} أي: دعا على قومه {مِنْ قَبْلُ} أي: مِنْ قبل إِبراهيمَ ولوطٍ. فأما الكرب العظيم، فقال ابن عباس: هو الغرق وتكذيب قومه.
قوله تعالى: {ونصرناه من القوم} أي: منعناه منهم أن يصلوا إِليه بسوءٍ. وقيل: {من} بمعنى على.


قوله تعالى: {وداود وسليمان إِذ يحكمان في الحرث} وفيه قولان:
أحدهما: أنه كان عنباً، قاله ابن مسعود، ومسروق، وشريح.
والثاني: كان زرعاً، قاله قتادة.
{إِذ نَفَشَتْ فيه غَنَمُ القوم} قال ابن قتيبة: أي: رَعَتْ ليلاً، يقال: نَفَشَت الغنمُ بالليل، وهي إِبل نَفَشٌ ونُفَّاشٌ ونِفَاشٌ، والواحد: نَافِشٌ، وَسَرَحَتْ وسَرَبَتْ بالنهار. قال قتادة: النَّفَش بالليل، والهَمَل بالنهار. وقال ابن السكِّيت: النَّفَش: أن تنتشر الغنم بالليل ترعى بلا راعٍ.
الإِشارة إِلى القصة:
ذكر أهل التفسير أن رجلين كانا على عهد داود عليه السلام، أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فتفلَّتت الغنم فوقعت في الحرث فلم تُبق منه شيئاً، فاختصما إِلى داود، فقال لصاحب الحرث: لك رقاب الغنم، فقال سليمان: أوَ غير ذلك؟ قال: ما هو؟ قال: ينطلق أصحاب الحرث بالغنم فيصيبون من ألبانها ومنافعها، ويُقبل أصحاب الغَنَم على الكَرْم، حتى إِذا كان كليلة نفشت فيه الغَنَم، دفع هؤلاء إِلى هؤلاء غنمهم، ودفع هؤلاء إِلى هؤلاء كَرْمهم، فقال داود: قد أصبتَ القضاءَ، ثم حكم بذلك، فذلك قوله: {وكُنَّا لِحُكمهم شاهدين} وفي المشار إِليهم قولان:
أحدهما: داود وسليمان، فذكرهما بلفظ الجمع، لأن الاثنين جمع، هذا قول الفراء.
والثاني: أنهم داود وسليمان والخصوم، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وابن أبي عبلة: {وكنا لِحُكمها} على التثنية. ومعنى {شاهدِين}: أنه لم يَغِب عنّا من أمرهم شيء. {ففهَّمْناها سليمان} يعني: القضية والحكومة. وإِنما كنى عنها، لأنه قد سبق ما يدل عليها من ذِكْر الحُكم، {وكُلاًّ} منهما {آتينا حُكماً} وقد سبق بيانه. قال الحسن: لولا هذه الآية لرأيت أن القضاة قد هلكوا، ولكنه أثنى على سليمان لصوابه، وعَذَر دواد باجتهاده.
فصل:
قال أبو سليمان الدمشقي: كان قضاء داود وسليمان جميعاً من طريق الاجتهاد، ولم يكن نصّاً، إِذ لو كان نصاً ما اختلفا. قال القاضي أبو يعلى: وقد اختلف الناس في الغنم إِذا نفشت ليلاً في زرع رجل فأفسدتْه، فمذهب أصحابنا أن عليه الضمان، وهو قول الشافعي، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا ضمان عليه ليلاً ونهاراً، إِلا أن يكون صاحبها هو الذي أرسلها، فظاهر الآية يدل على قول أصحابنا، لأن داود حكم بالضمان، وشرع مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لنا مالم يَثْبُت نَسْخُه. فإن قيل: فقد ثبت نسخ هذا الحكم، لأن داود حكم بدفع الغَنَم إِلى صاحب الحرث، وحكم سليمان له بأولادها وأصوافها، ولا خلاف أنه لا يجب على من نفشتْ غنمه في حرث رجل شيءٌ من ذلك؛ قيل: الآية تضمنت أحكاماً، منها وجوب الضمان وكيفيته، فالنسخ حصل على كيفيَّته، ولم يحصل على أصله، فوجب التعلُّق به، وقد روى حرام بن محيِّصة عن أبيه: أن ناقةً للبراء دخلت حائط رجل فأفسدتْ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل.
قوله تعالى: {وسخَّرْنا مع داود الجبال يسبِّحن} تقدير الكلام: وسخَّرْنا الجبال يسبِّحن مع داود. قال أبو هريرة: كان إِذا سبَّح أجابته الجبال والطير بالتسبيح والذِّكْر، وقال غيره: كان إِذا وجد فترةً، أمر الجبال فسبَّحت حتى يشتاق هو فيسبِّح.
قوله تعالى: {وكُنَّا فاعلين} أي: لذلك. قال الزجاج: المعنى: وكنّا نقدر على ما نريده.
قوله تعالى: {وعلَّمْناه صنعةَ لَبُوس لكم} في المراد باللَّبوس قولان:
أحدهما: الدُّروع، وكانت قبل ذلك صفائح، وكان داود أول من صنع هذه الحلق وسرد، قاله قتادة.
والثاني: أن اللَّبوس: السلاح كلُّه من درع إِلى رمح، قاله أبو عبيدة. وقرأ أبو المتوكل، وابن السميفع: {لُبوس} بضم اللام.
قوله تعالى: {لِتُحْصِنَكُمْ} قرأ ابن كثير. ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: {لِيُحْصِنَكُمْ} بالياء. وقرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم: {لِتُحْصِنَكُمْ} بالتاء. وروى أبو بكر عن عاصم: {لِنُحْصِنَكُمْ} بالنون خفيفة. وقرأ أبو الدرداء، وأبو عمران الجوني، وأبو حيوة: {لِتُحَصِّنَكُمْ} بتاء مرفوعة وفتح الحاء وتشديد الصاد. وقرأ ابن مسعود، وأبو الجوزاء، وحميد بن قيس: {لِتَحَصُّنِكُمْ} بتاء مفتوحة مع فتح الحاء وتشديد الصاد مع ضمها. وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو المتوكل، ومجاهد: {لِنُحَصِّنَكُمْ} بنون مرفوعة وفتح الحاء وكسر الصاد مع تشديدها. وقرأ معاذ القارئ، وعكرمة، وابن يعمر، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: {لِيُحْصِنَّكُمْ} بياء مرفوعة وسكون الحاء وكسر الصاد مشددة النون. فمن قرأ بالياء ففيه أربعة أوجه. قال أبو علي الفارسي: أن يكون الفاعل اسم الله، لتقدُّم معناه، ويجوز أن يكون اللباس، لأن اللبوس بمعنى اللباس من حيث كان ضرباً منه، ويجوز أن يكون داود، ويجوز أن يكون التعليم، وقد دل عليه {علَّمْناه}.
ومن قرأ بالتاء، حمله على المعنى، لأنه الدرع.
ومن قرأ بالنون، فلتقدمُّ قوله: {وعلَّمناه}.
ومعنى {لِتُحْصِنَكُمْ}: لِتُحْرِزَكم وتمنعكم {مِنْ بأسكم} يعني: الحرب.
قوله تعالى: {ولسليمان الرِّيحَ} وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو عمران الجوني، وأبو حيوة الحضرمي: {الرِّياحُ} بألف مع رفع الحاء. وقرأ الحسن، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء: بالألف ونصب الحاء، والمعنى: وسخَّرْنا لسليمان الريح {عاصفةً} أي: شديدة الهبوب {تجري بأمره} يعني: بأمر سليمان {إِلى الأرض التي باركْنا فيها} وهي أرض الشام، وقد مَرَّ بيان بركتها في هذه السورة [الأنبياء: 72]؛ والمعنى: أنها كانت تسير به إِلى حيث شاء، ثم تعود به إِلى منزله بالشام.
قوله تعالى: {وكُنَّا بِكُلِّ شيء عالِمين} علمنا أن ما نُعطي سليمان يدعوه إِلى الخضوع لربِّه.
قوله تعالى: {ومن الشياطين من يغوصون له} قال أبو عبيدة: {مَنْ} تقع على الواحد والاثنين والجمع من المذكَّر والمؤنَّث. قال المفسرون: كانوا يغوصون في البحر، فيستخرجون الجواهر، {ويعملون عملاً دون ذلك} قال الزجاج: معناه: سوى ذلك، {وكُنَّا لهم حافظين} أن يُفسدوا ما عملوا. وقال غيره: أن يخرجوا عن أمره.


قوله تعالى: {وأيُّوبَ إِذ نادى ربَّه} أي: دعا ربَّه {أنِّي} وقرأ أبو عمران الجوني: {إِني} بكسر الهمزة، {مَسَّنيَ الضُّرُّ} وقرأ حمزة: {مَسَّنِيْ} بتسكين الياء، أي: أصابني الجَهْد، {وأنت أرحم الراحمين} أي: أكثرهم رحمة، وهذا تعريض منه بسؤال الرحمة إِذ أثنى عليه بأنه الأرحم وسكت.
الإِشارة إِلى قصته:
ذكر أهل التفسير أن أيوب عليه السلام كان أغنى أهل زمانه، وكان كثير الإِحسان. فقال إِبليس: يا رب سلِّطني على ماله وولده وكان له ثلاثة عشر ولداً فإن فعلتَ رأيتَه كيف يُطيعني ويَعصيكَ، فقيل له: قد سلَّطْتُكَ على ماله وولده، فرجع إِبليس فجمع شياطينه ومردته، فبعث بعضهم إِلى دوابِّه ورعاته، فاحتملوها حتى قذفوها في البحر، وجاء إِبليس في صورة قيِّمه، فقال: يا أيوب ألا أراك تصلِّي وقد أقبلتْ ريح عاصف فاحتملت دوابَّك ورعاتها حتى قذفَتْها في البحر؟ فلم يردَّ عليه شيئاً حتى فرغ من صلاته، ثم قال الحمد لله الذي رزقني ثم قبله مِنِّي، فانصرف خائباً، ثم أرسل بعض الشياطين إِلى جنانه وزروعه، فأحرقوها، وجاء فأخبره، فقال مثل ذلك، فأرسل بعض الشياطين فزلزلوا منازل أيوب وفيها ولده وخدمه، فأهلكوهم، وجاء فأخبره، فحمد الله، وقال لإِبليس وهو يظنه قيِّمه في ماله: لو كان فيكَ خير لقبضكَ معهم، فانصرف خائباً، فقيل له: كيف رأيتَ عبدي أيوب؟ قال: يا ربِّ سلِّطني على جسده فسوف ترى، قيل له: قد سلَّطْتُكَ على جسده، فجاء فنفخ في إِبهام قدميه، فاشتعل فيه مثل النار، ولم يكن في زمانه أكثر بكاءً منه خوفاً من الله تعالى، فلما نزل به البلاء لم يبكِ مخافة الجزع، وبقي لسانُه للذِّكر، وقلبه للمعرفة والشُّكر، وكان يرى أمعاءه وعروقه وعظامه، وكان مرضه أنه خرج في جميع جسده ثآليل كأليات الغنم، ووقعت به حكّة لا يملكها، فحكَّ بأظفاره حتى سقطت، ثم بالمسوح، ثم بالحجارة، فأنتن جسمه وتقطَّع، وأخرجه أهل القرية فجعلوا له عريشاً على كُناسة، ورفضه الخلق سوى زوجته، واسمها رحمة بنت إِفراييم بن يوسف بن يعقوب، فكانت تختلف إِليه بما يصلحه، وروى أبو بكر القرشي عن الليث بن سعد، قال: كان ملك يظلم الناس، فكلَّمه في ذلك جماعة من الأنبياء، وسكت عنه أيوب لأجل خيل كانت له في سلطانه، فأوحى الله إِليه: تركتَ كلامَه من أجل خيلك؟! لأطيلنَّ بلاءك.
واختلفوا في مدة لبثه في البلاء على أربعة أقوال.
أحدها: ثماني عشرة سنة، رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: سبع سنين، قاله ابن عباس، وكعب، ويحيى بن أبي كثير.
والثالث: سبع سنين وأشهر، قاله الحسن.
والرابع: ثلاث سنين، قاله وهب.
وفي سبب سؤاله العافية ستة أقوال.
أحدها: أنه اشتهى إِداماً، فلم تُصبه امرأته حتى باعت قرناً من شعرها، فلما علم ذلك، قال: {مسَّني الضُّر}، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: أن الله تعالى أنساه الدعاء مع كثرة ذكره الله، فلما انتهى أجل البلاء، يسّر له الدعاء، فاستجاب له، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثالث: أن نفراً من بني إِسرائيل مرُّوا به، فقال بعضهم لبعض: ما أصابه هذا إِلا بذنْب عظيم، فعند ذلك قال: {مسَّني الضُّر}، قاله نوف البكالي. وقال عبد الله بن عبيد بن عمير: كان له أخوان، فأتياه يوماً فوجدا ريحاً، فقالا: لو كان الله علم منه خيراً ما بلغ به كلّ هذا، فما سمع شيئاً أشدَّ عليه من ذلك، فقال: اللهم إِن كنتَ تعلم أنِّي لم أَبِت ليلةً شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدِّقني، فصُدِّق وهما يسمعان، ثم قال: اللهم إِن كنتَ تعلم أنِّي لم ألبس قميصاً وأنا أعلم مكان عارٍ فصدِّقني، فصُدِّق وهما يسمعان، فخرَّ ساجداً، ثم قال: اللهم لا أرفع رأسي حتى تكشفَ ما بي، فكشف الله عز وجل ما به.
والرابع: أن إِبليس جاء إِلى زوجته بسخلة، فقال: ليذبح أيوب هذه لي وقد بَرَأ، فجاءت فأخبرته، فقال: إِن شفاني الله لأجلدنَّك مائة جلدة، أمرتني أن أذبح لغير الله؟! ثم طردها عنه، فذهبتْ، فلما رأى أنه لا طعام له ولا شراب ولا صديق، خرَّ ساجداً وقال: {مسَّني الضُّر}، قاله الحسن.
والخامس: أن الله تعالى أوحى إِليه وهو في عنفوان شبابه: إِني مبتليك، قال: يا رب، وأين يكون قلبي؟ قال: عندي، فصبَّ عليه من البلاء ما سمعتم، حتى إِذا بلغ البلاء منتهاه، أوحى إِليه أني معافيكَ، قال: يا رب، وأين يكون قلبي؟ قال: عندك، قال: {مسَّني الضُّر}، قاله إِبراهيم بن شيبان القرميسي فيما حدّثنا به عنه.
والسادس: أن الوحي انقطع عنه أربعين يوماً، فخاف هجران ربِّه، فقال: {مسَّني الضُّر}، ذكره الماوردي.
فإن قيل: أين الصبر، وهذا لفظ الشكوى؟
فالجواب: أن الشكوى إِلى الله لا تنافي الصبر، وإِنما المذموم الشكوى إِلى الخَلْق، ألم تسمع قول يعقوب: {إِنما أشكو بَثِّي وحُزْني إِلى الله} [يوسف: 86]. قال سفيان بن عيينة: وكذلك من شكا إِلى الناس، وهو في شكواه راضٍ بقضاء الله، لم يكن ذلك جزعاً، ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل في مرضه: «أجدني مغموماً» و «أجدني مكروباً»، وقوله: «بل أنا وارأساه». قوله تعالى: {وآتيناه أهله} يعني: أولاده {ومِثْلَهُمْ معهم} فيه أربعة أقوال.
أحدها: أن الله تعالى أحيا له أهله بأعيانهم، وآتاه مثلهم معهم في الدنيا، قاله ابن مسعود، والحسن، وقتادة. وروى أبو صالح عن ابن عباس: كانت امرأته ولدت له سبعة بنين وسبع بنات، فنُشِروا له؛ وولدت له امرأته سبعة بنين وسبع بنات.
والثاني: أنهم كانوا قد غُيِّبوا عنه ولم يموتوا، فآتاه إِياهم في الدنيا ومثلهم معهم في الآخرة، رواه هشام عن الحسن.
والثالث: آتاه الله أجور أهله في الآخرة، وآتاه مثلهم في الدنيا، قاله نوف، ومجاهد.
والرابع: آتاه أهله ومثلهم معهم في الآخرة، حكاه الزجاج.
قوله تعالى: {رحمةً مِنْ عندنا} أي: فعلنا ذلك به رحمةً مِنْ عندنا، {وذِكرى} أي: عِظةً {للعابدين} قال محمد بن كعب: من أصابه بلاء فليذكر ما أصاب أيوب، فليقل: إِنه قد أصاب من هو خيرٌ مني.
قوله تعالى: {وذا الكفل} اختلفوا هل كان نبيّاً، أم لا؟ على قولين.
أحدهما: أنه لم يكن نبيّاً، ولكنه كان عبداً صالحاً، قاله أبو موسى الأشعري، ومجاهد. ثم اختلف أرباب هذا القول في علَّه تسميته بذي الكفل على ثلاثة أقوال.
أحدها: أن رجلاً كان يصلِّي كلَّ يوم مائة صلاة فتوفي، فكفل بصلاته، فسمِّي: ذا الكفل، قاله أبو موسى الأشعري.
والثاني: أنه تكفل للنبيّ بقومه أن يكفيه أمرهم ويقيمه ويقضي بينهم بالعدل، ففعل، فسمِّي: ذا الكفل، قاله مجاهد.
والثالث: أن ملِكاً قَتل في يوم ثلاثمائمة نبيٍّ، وفرَّ منه مائة نبيٍّ، فكفلهم ذو الكفل، يطعمهم ويسقيهم حتى أُفلتوا، فسمِّي: ذا الكفل، قاله ابن السائب.
والقول الثاني: أنه كان نبيّاً، قاله الحسن، وعطاء. قال عطاء: أوحى الله تعالى إِلى نبيّ من الأنبياء: إِني أُريد قبض روحك، فاعرض مُلكك على بني إِسرائيل، فمن تكفَّل لك بأنه يصلِّي الليل لا يفتر، ويصوم النهار لا يفطر، ويقضي بين الناس ولا يغضب، فادفع مُلككَ إِليه، ففعل ذلك، فقام شابّ فقال: أنا أتكفَّل لك بهذا، فتكفَّل به، فوفى، فشكر اللهُ له ذلك، ونبَّأه، وسمِّي: ذا الكفل. وقد ذكر الثعلبي حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكفل: «أنه كان رجلاً لا ينزع عن ذنب، وأنه خلا بامرأة ليفجر بها، فبكت، وقالت: ما فعلتُ هذا قطّ، فقام عنها تائباً، ومات من ليلته، فأصبح مكتوباً على بابه: قد غفر الله للكفل»؛ والحديث معروف، وقد ذكرتُه في الحدائق، فجعله الثعلبي أحد الوجوه في بيان ذي الكفل، وهذا غلط، لأن ذلك اسمه الكفل، والمذكور في القرآن يقال له: ذو الكفل، ولأن الكفل مات في ليلته التي تاب فيها، فلم يمض عليه زمان طويل يعالج فيه الصبر عن الخطايا. وإِذا قلنا: إِنه نبيّ، فإن الأنبياء معصومون عن مثل هذا الحال. وذكرت هذا لشيخنا أبي الفضل بن ناصر رحمه الله تعالى، فوافقني، وقال: ليس هذا بذاك.
قوله تعالى: {كُلٌّ من الصابرين} أي: على طاعة الله وترك معصيته، {وأدخلناهم في رحمتنا} في هذه الرحمة ثلاثة أقوال.
أحدها: أنها الجنة، قاله ابن عباس.
والثاني: النبوَّة، قاله مقاتل.
والثالث: النِّعمة والموالاة، حكاه أبو سليمان الدمشقي.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8